في 1992 خرج الكاتب الاسكتلندي ألسدر جراي بسيناريو افتراضي، يدفع بحدود الخيال بعيداً عن الوحش المخيف والفكرة الأساسية لرائعة ماري شيلي الشهيرة «Frankenstein»، في رواية سماها «Poor Things»، يتناولها فيلم يورجوس لانثيموس بنفس الاسم ببعض التغييرات الراديكالية، على أن تدور بشكل عام عن التساؤل المشروع، ماذا لو كان الوحش امرأة جميلة عوضاً عن مسخ مرعب؟ هل يسيطر على الناس الفزع منها وينفرون من حولها، أم يتحول الأمر إلى سباق من أجل استغلالها والظفر بها؟
مما يدفع للتساؤل عن ماهية الكائنات المسكينة أو البائسة المقصودة بعنوان الفيلم، وكيف يمكن لرحلة البطلة أن توازي إحدى أهم وأشهر التجارب الروحانية في تاريخ البشرية، وتحقق في نهايتها انتصاراً معنوياً للمرأة المظلومة حول العالم، من نبيلة عبيد إلى مونيكا بيلوتشي.
«امرأة تخطط طريقها للحرية، كم هذا رائعاً؟!»
البوذا
تحت ظل مملكة مترامية الأطراف، عاش الشاب سيدهارتا جوتاما في جنة عالية الأسوار لا تعرف الجوع أو يتسرب إليها المرض، تحميه من آلام الواقع وقسوة العالم، إذ يعيش في ترف وبذخ بلا حدود، بعد أن أقسم والده الملك ألا يعرضه لمآسي الحياة ومعاناة البشر، آملاً في تخليصه من الحاجة للروحانيات والتحول لرجل دين، كما حذرته نبوءة يوم مولد ولي العهد.
وحتى الـ18 من عمره، كان سيدهارتا بمنأى عن البشر أو احتياجات الروح وماهية وجود الإنسان، حتى أصابه الإحباط والملل من رتابة حياته المثالية، وأراد تخطي حدود قصره واستكشاف البلاد، ومع رفض والده المتكرر، قرر التسلل بصحبة خادمه الوفي في ثلاث رحلات متقطعة للمدينة.
في المرة الأولى تعرف على المرض، والثانية شهد التقدم في العمر، وأخيراً رأى الموت، وفي كل مرة يسأل خادمه هل يمكن أن يصيبني ما حل بهؤلاء، فيرد مرافقه الحكيم كلنا في انتظار طرق القدر أبوابنا بأي وقت، فيصاب الشاب بالاكتئاب والغضب على العالم، ولا يشفي ظمأه كل شهوات وملذات العالم، حتى يهرب من القصر ويبدأ رحلته الخاصة في العالم.
كلما تقدم في رحلته يصاب سيدهارتا بالقهر والفزع من حال البشر، وعدم اكتراث العالم بما يجري فيه من فظائع وقسوة من البشر تجاه بعضهم، لا يرضيه التقشف الشديد حتى الموت أو الترف والبذخ المبالغ فيه، فالجسد مجرد أداة يمكن أن تسوق صاحبها للهلاك، والفقر مرض يهوى بروح من نزل به، والمال نقمة في صورة نعمة تلوث عقل من تسيطر عليه، والظلم ينهش في قلوب البشر كما يمنع الخوف الحياة.
وبعد أن فقد الأمل في الحياة ورفض الانصياع لقوانين الوجود الجاحدة، جلس البوذا تحت شجرة عالية لـ39 يوماً بلا حركة أو ماء أو طعام، فقط رجل مع عقله في سلام الطبيعة، لهدف واحد فقط أن يتوصل لماهية الحياة وسر الراحة الأبدية وكيفية التعامل مع ألم العيش.
ومن ثم فطريق بيلا باكستر بطلة القصة، يتخذ منحنىً مماثلاً لسبيل البوذا للتنوير، الذي يعني لقبه حرفياً الذي وصل إلى النور وحقيقة الكون، وبعد أعوام طويلة حجزها والدها جودوين باكستر كفأر تجارب في بيئة محددة، حيث يمكنه التحكم فيها وحساب العوامل المؤثرة عليها، اختفت منها ألوان الحياة وتجردت من أي مشاعر حقيقية، حتى تتمرد بيلا مدفوعة بالرغبة في رؤية ما هو أبعد من شباك غرفتها.
بيلا في الإسكندرية
وكما مر البوذا بعدة مراحل في طريقه قبل التحرر من الغابات والقرى المختلفة، تحط بيلا الرحال في عدة محطات حول العالم، ترى فيها المتعة في لشبونة، والبؤس والقسوة في الإسكندرية، ثم يتقاطع طريقها مع أولى مراحل الفلسفة والفكر على متن سفينة إلى أثينا، لكن مع رغبتها الساذجة في المساعدة العشوائية للفقراء، غير مدركة لحدود الجشع البشري، تنقطع رحلتها وتحط الرحال في باريس عاصمة الحب.
وهناك تكتشف الحب بالفعل، لكن حب النفس الأسمى وبداية الطريق لتكريم الذات، مما فتح لها المجال لتوسيع نطاق رحلتها، واكتساب مزيد من الخبرات تتغير معها ألوان الفيلم وتصبح بالتدريج أكثر وضوحاً وتمييزاً.
وبينما خرج البوذا من تأمله الطويل شخصاً جديداً في اليوم الـ40، بعد أن وصل إلى حقيقة الكون وأصل الوجود، حتى يصعد فوق نزواته واحتياجاته المادية، وينظر للحياة بعيون المتنزه المستغني، فسبيل التنوير يبدأ من الداخل وطريق الهداية طويل لا خريطة له، وهو ما تدركه بيلا باكستر في منتصف الفيلم تقريباً.
لكن مع الوعي صاحب اليأس البوذا، ودفعه لاعتزال الناس والتأمل وحيداً، وكذلك فقدت بيلا الأمل ووجدت نفسها في نفق مظلم، في وحل من التشاؤم والغضب غير المحدد، فتأتي كلمات صاحبة دار المتعة لتخفف عنها «أنت في منطقة مظلمة، وقبل أن يأتي النور والحكمة إليك، يجب أن تسعى بنفسك نحو ذلك، وبمجرد أن تصبحي على الجانب الآخر ستكونين ممتنة لهذه اللحظة، لكن عليك أن تستمري».
فلا تتوقف بيلا عن المحاولة، حتى في هيئة أسابيع تقضيها كعاهرة في باريس، فبجانب كسب المال «يجب علينا تجربة كل شيء، ليس الجيد فقط، بل الهوان والرعب والحزن، هذا ما يجعلنا كاملين وينمي جوهر روحنا، وليس أطفالاً طائشين بلا خبرة، عندها فقط يمكننا فهم العالم، وحينها يصبح بين أيدينا»، فتكتشف بيلا حقيقة العالم وتدرس جنس الرجال الراغبين في السيطرة عليها، منذ أن عادت للحياة، وحتى في حياتها السابقة.
وبنهاية الرحلة تخرج أخيراً من فترة التأمل المجازية التي نفذها البوذا بشكل حرفي، وتصل لقمة تطورها العقلي بالتوازي مع تحول ألوان الفيلم للتركيزات والأشكال المعتادة، فلا الساذجة والبراءة التامة حل نافع لحياة سليمة، أو العهر والتخلي عن قدسية الجسد طريق للمتعة، فالتوسط وتنمية العقل هما السبيل لأخذ زمام الحياة وتولي دفة مصير الإنسان.
عند طرح سؤال من المقصود بعنوان الفيلم، غالباً ما يسرع الجميع تجاه البطلة بيلا باسكتر، على أساس كونها البائسة التي أنهت حياتها ثم اختطفها عالم مختل، قام بإعادتها للحياة باستخدام مخ جنينها غير المولود، وقضت أيامها دمية في معرضه الخاص، حتى تخرج ولا تمر أيامها من دون معاناة وصعوبات خلال مراحل حياتها، أو قد يكون القصد إسقاط عام على النساء في المجتمعات الذكورية، وغياب المساواة أو التقليل من المرأة، وسيطرة الرجل على مصيرها منذ قديم الأزل.
لكن ماذا لو كان الفيلم يرمي إلى اتجاه مخالف تماماً، ويذهب إلى أن الرجال هم الكائنات المسكينة البائسة في سياق الفيلم؟
الرجال في حياة بيلا
بالبعد عن المعنى الحرفي للكائنات المسكينة، بأنهم مظلومون مغلوبون على أمرهم، بما يعرضه الفيلم عن أبطاله الذكور بأنهم مثيرون للشفقة وضعفاء أمام نزواتهم وهوسهم للتحكم وتقرير مصير الآخرين، فمن البداية ووجود بيلا أسهم فيه رجلان مختلفان تماماً، ففيكتوريا قفزت في النهر وأنهت حياتها بسبب زوجها الجنرال السادي، ورغبة في تخليص العالم من نسله قبل أن يصنع وحشاً أكبر وأفظع منه.
عبد الملك زرزور من فيلم إبراهيم الأبيض
وعلى الجانب الآخر الطبيب جودوين الذي يمثل شكلاً محتملاً من مصير طفلها، بعد أن قضى أعواماً طويلة من العذاب المستمر، مع إجراء والده التجارب العلمية عليه منذ طفولته، حتى شوه جودوين مدى الحياة، وزرع فيه احتقار البشر وجسم الإنسان كهدية مقدسة من الرب، الذي اتخذ اسمه وصفته بالنسبة لصنعه بيلا، مما أعطاه بدوره الحق والغرور في إعادتها للحياة من الفضول العلمي، لكن لأن الرجال كائنات مسكينة بطبعهم كما يرى الفيلم، وطبقاً لكلمات عبدالملك زرزور في فيلم «إبراهيم الأبيض»: «الإنسان ضعيف»، فإن جودوين نفسه يطور مشاعر لها ويقع في حب صنعه.
لكنه كذلك غير قادر على استغلالها بالشكل المطلوب بسبب عاهته الجسدية، فيستعين بمسكين آخر في هيئة ماكس، يقع في حبها من أول لحظة، ويبدو ضعفه جلياً من بداية التعامل مع بيلا، وعجزه في مواجهة امرأة جميلة حتى ولو كانت بعقل طفلة لا تدري معنى الحب أو كيف تبادله المشاعر، فهو مسكين متيم في عشقه لتلك التي لا يمكن أن تفهم شغفه.
الرجال في حيـاة بيلا
وحين يقتحم حياتها دانكن الرجل القوي والدنجوان فارس الخيالات الجامحة، المشهور بمغامراته الغرامية والعاطفية، وكونه كائناً مفترساً يتغذى على بساطة الفتيات الساذجات، وهو ما يقوم به بالفعل مع بيلا في البداية، وينجح في استمالتها للهرب بصحبته في رحلة حول العالم، بنية استغلالها جنسياً، بعيداً عن أي وجوه مألوفة قد تمثل أقل قدر من الأمان لها، أو تصارعه على التحكم بها.
ولأن الانسان ضعيف أمام العشق، يقع دنكان نفسه في المصيدة لأول مرة في حياته، حتى يصيبه الجنون من التعلق بها بعد أن فشل في ترويض روح المغامرة بداخلها، وبنهاية الفيلم يظهر بشكل واضح كم هو كائن مسكين مثير للشفقة في ضعفه وحقارته، وفي المقابل يمنح الفيلم ما يبدو وأنه قدر ضئيل من الخلاص للمسكين الأكبر، جودوين المعذب بعدما نجحت بيلا من دون قصد في إجبار الإنسانية على الانتصار على أسوأ صفاته، وبعد سنوات طويلة تتمكن عواطفه منه ويخرج من ظل والده الثقيل بالقسوة، ويتخلى عن الرؤية العدمية للحياة ويبدأ في تقدير الجمال والمشاعر، بعدما اعتبرها خطأً وضعفاً كما علمه والده وأثبت عليه هو شخصياً، وتمكن من إعادة توجيه مشاعره تجاه بيلا لمكانها الصحيح، بما يليق بأب محب لطفلته.
لكن الأمثلة الأهم للرجال المساكين في الفيلم، من تقاطعت طرقهم مع بيلا في باريس خلال عملها فتاة ليل، جميعهم بلا استثناء كائنات مسكينة، الذي يعاني من الضعف الجنسي في البداية، والأب الراغب في تعليم أولاده وكيف سيتحولون إلى مساكين، من الصدمة وال trauma التي على وشك أن تصاحبهم طوال حياتهم، حتى القس المعذب بالخطيئة وغيره، كلهم نماذج تعزز نفس الفكرة.
ماكس وبيلا
أما ماكس فهو أقرب مثال للرجل السوي، ليس مثالياً ولا قديساً أو ملاكاً منزلاً من السماء، لكنه معتدل وطبيعي إلى حد ما مقارنة بالآخرين، يمكن أحياناً أن تتغلب عليه صفاته السيئة وأفعال ضد شخصيته الحقيقية، لكن بنفس الوقت غالباً ما يكون مدفوعاً بحسن النية والمشاعر الصادقة، وهو كذلك الوفي الوحيد لبيلا من البداية للنهاية ونظرياً لم يعمل على استغلالها أو عاملها ملكية خاصة للتحكم بها.
كذلك تعد مسيرة بيلا باسكتر استكمالاً لرحلة 2 من نساء السينما المعذبات من قبلها، فالثلاثي يمثل ثالوثاً عابر للقارات، بين مصر بشخصية كريمة/نبيلة عبيد في فيلم «توت توت» (1993) وإيطاليا مع مالينا/مونيكا بيلوتشي في (2000) Malena، حتى بيلا في Poor Things، فعن نفس الفكرة تدور عوالم تلك التجارب السينمائية، فهي شابة فاتنة، جمالها سر تعاسة حياتها الأساس، ويضعها تحت دائرة الضوء كمطمع للجميع من حولها.
ويزيد من معاناتهم في مواجهة العالم، اشتراكهم في صفة البراءة، التي تتحول لنقمة مع مرور الأيام، قد تكون براءة حرفية كطفل مثل كريمة وبيلا في بداية الفيلم، أو سذاجة مالينا ابنة القرية الطيبة التي لا تدرك قيمة جمالها، لكن ما يكتشفونه سريعاً أنهن أكثر نقاءً من أن يستوعبهم العالم القاسي، أو يقف رجاله جانباً دون أن يحاولوا بكل ما أوتوا من قوة أن يقضوا على تلك البراءة.
فكريمة محل سخرية كل من يحيط بها، وضعفها الذهني يجعلها عرضة للاستغلال من كل جانب، لكن قصتها الحقيقية تبدأ عندما فتقع ضحية لشهوة رجل أعمال غني، يستدرجها إلى منزله ويعكف على الاعتداء عليها، لكنها بعكس بيلا عاجزة عن إدراك الموقف أو استخدامه لصالحها بعد هروبها مع دونكان، فهامش التطور الذهني عند كريمة محكوم بقوانين المرض، في حين بيلا في تصاعد مستمر لعقلها الطفولي.
وفي أرض صقلية بجنوب إيطاليا، تعيش مالينا الجميلة بسلام مع زوجها، لكنها تدفع ضريبة حياتها الهادئة بعد اختفاء زوجها في ميادين الحرب العالمية الثانية، وبعد إعلان وفاته، تتكالب عليها القرية بالكامل، بين رجال طامعين ونساء حاقدات، ومن دون مقدمات تقع ضحية للاعتداء الجنسي من المحامي الخاص بها، ووسط فقرها المتزايد وسوء حالها مع استمرار الحرب، بالتدريج تدخل في طور من الانحدار والانحلال، مشابه لفترة بيلا في باريس، لكن مالينا مضطرة للنجاة بعد أن حكم عليها المجتمع بدور العاهرة.
ومن ثم يكون الجنس وسيلة اتصال الثلاثة بالعالم من حولهم، حيث يتم الدفع بالثلاثة إليه بالقوة، ويتعرضن للاعتداء والاستغلال الجنسي من الرجال كنتيجة لذلك، لكن بنفس الوقت تدفعهم الأحداث إلى النضوج والتخلي عن النظرة الطفولية للعالم، فـ«كريمة» السعيدة الضاحكة طوال الفيلم التي تقضي أيامها بلا هم أو اكتراث، تصطدم بحقيقة الحياة وتنضم لجبل شاهق من الضحايا العالقين في دوامة الحزن والقهر، بينما مالينا تدرك الوضع المعقد المحيط بها، وتضطر للتكيف والتعايش مع واقعها الجديد، من أجل النجاة في محاولة لتطويع الاستغلال الذي تتعرض على شروطها الخاصة، لكنها كذلك تهوى لنفس مصير كريمة، في استعراض علني يشهر بها بين سكان القرية، في ذل وهوان بملابس مهترئة تحت الأقدام.
انتصار بيلا في النهاية
بينما بيلا باكستر لا تسمح للعالم أن يعيقها عن الوصول لنهاية الرحلة، فهي تمر بنفس مراحل حياة كريمة ومالينا، من التعرض لقسوة وصعوبة العالم من البداية للنهاية، وتتعرض للاستغلال وتهبط للهاوية مادياً ومعنوياً، لكنها لا تلبث حتى تصعد من جديد من تحت الأنقاض، وبشكل ما تنتصر لكل كريمة ومالينا تعاني في العالم، وتأخذ زمام حياتها وتفرض رغبتها وشخصيتها على كل من حاولوا التحكم في مصيرها، وهمشوا من شخصها واعتبروها سلعة يمكن تملكها والتعدي على قدسية أنوثتها، حتى انتقمت من زوجها الطاغية وحولته إلى معزة صغيرة، كما اعتبرها هو طوال حياته.